مقالات

خطة التنمية بين الواقعية والطموح

بقلم : عبدالفتــــــــاح الجبـــــــالى


يأتي مشروع خطة التنمية الإقتصادية والإجتماعية عن العام المالي 2025/2026، والذي يناقش في أروقة البرلمان المصري حاليا، في ظل ما يسود الاقتصاد العالمي من حالة عدم اليقين الشديدة بعد أن أخذت الأزمات تضرب كافة جنبات الاقتصاد العالمي وامتدت بآثارها لتشمل معظم أقطار العالم. ومن المفارقات أن هذه الأزمات تتعاقب مع بعضها البعض، منذ جائحة كورونا وحتى الآن. وأصبحت البشرية على مسار جديد مثير للقلق. فهناك تصاعد للاضطرابات الجغرافية والسياسية وحالة الحروب في الشرق الأوسط وأوروبا فضلا عن نتائج السياسة الأمريكية الاقتصادية خاصة على التجارة الدولية وهو ما يتزامن مع تنامى المخاطر المرتبطة بالمناخ وهكذا يشهد الاقتصاد العالمي أزمات كبرى وتحولات هامة تلقى بآثارها على الاقتصادات العالمية ومن ضمنها مصر. وهو ما يلقى بمزيد من الأعباء والضغوط على الخطط التنموية للبلاد.
من هذا المنطلق يطرح التساؤل كيف تعاملت الخطة مع كل هذه المتغيرات والتطورات والتحديات؟ هنا يشير المشروع إلى أنها تستهدف معدل نمو اقتصادي في حدود 4.5% للعام المالي 2025/2026 ورغم انه أعلى من المتوقع عن العام المالي الحالي والمقدر بنحو 4% والمعدل المتواضع المحقق عام 2023/2024 البالغ 2.4% إلا انه يظل أقل كثيرا من المطلوب لتحقيق الطفرة التنموية بالبلاد والذي يقدر بنحو 8% في المتوسط ويرجع السبب في ذلك إلى انخفاض معدل الاستثمار والذي لم يتجاوز 17% في الخطة مقابل 13% محقق عام 2023/2024 ومتوقع 15% عام 2024/2025. ويرجع الجزء الأكبر من هذا الانخفاض إلى تدنى معدل الإدخار المحلى والذي يصل إلى 4.7% عام 2024/2025 مما أدى إلى اتساع الفجوة التمويلية ويعد أحد أهم مصادر تمويل الاستثمارات، وبالتالي فإن زيادة معدلات النمو تتطلب أولا زيادة المدخرات لتحفيز تكوين رأس المال وتتطلب البحث فى مصادر التمويل التقليدية وغير التقليدية. ولم توضح الخطة آليات التعامل مع هذه المشكلة التي تعد احدى المشاكل الجوهرية في الاقتصاد.
وللأسف فقد جاءت الخطة بنفس النهج والآليات المتبعة خلال الأعوام السابقة والتي افرزت النتائج السلبية خاصة الإختلالات الهيكلية في بنية الإقتصاد والتي نجم عنها مشكلات عديدة يأتي على رأسها هشاشة النمو وعدم تنوعه حيث مازال يعتمد على القطاعات العقارية والتجارية، ولا يعتمد على القطاعات السلعية الإنتاجية خاصة الصناعات التحويلية ذات القيمة المضافة العالية. لهذا اتجهت معظم الوظائف الجديدة الى القطاعات غير الرسمية مثل التشييد والبناء والأنشطة العقارية والأعمال المؤقتة. الأمر الذي أدى إلى سوء توزيع عائدات النمو حيث استحوذ بند دخول الملكية على 68% من القيمة المضافة عام 2023/2024 مقابل 22% لبند الأجور والمرتبات و10% للمتحصلات الحكومية (وفقا لتقرير متابعة الخطة عن العام المالي 2023/2024). وكان من الأفضل إعادة صياغة استراتيجية التنمية لتعالج الإختلالات الكبيرة في الإقتصاد بين القطاعات السلعية الإنتاجية والقطاعات الخدمية، خاصة وأن النمو في الثانية لم يأت من القطاعات الخدمية الهامة كالصحة والتعليم والثقافة ولكنه جاء من قطاعات العقار والتجارة والمال. فضلا عن الإختلالات في الموازين الأساسية كالميزان الجاري في ميزان المدفوعات أو الموازنة العامة للدولة. ناهيك عن اختلالات توزيع الدخول وعوائد النمو والاختلالات في سوق العمل إلخ. الأمر الذي أدى لسيادة شعور العديد من المواطنين بأن الإقتصاد لا يحقق تطلعاتهم واهتماماتهم وأحلامهم. وكلها أمور كان من المفترض أن تحوز على اهتمامات الخطة، خاصة وأن ذلك هو جوهر العملية التخطيطية التي تهدف إلى وضع رؤية تنموية طموحة وواقعية في آن واحد للخروج من الأزمة الراهنة. وهو ما يتطلب السير بالإقتصاد إلى التحول نحو اقتصاد تنموي مستدام يعظم القيمة المضافة الغنية بفرص العمل مع تعزيز الإنتاج والإنتاجية وزيادة الفرص الاستثمارية جنبا إلى جنب مع تقديم الخدمات الإجتماعية كالصحة والتعليم بأعلى مستوى من الجودة مع التأكد من أن ثمار النمو تعود بالنفع على كافة المواطنين وهذا لن يتحقق إلا بالأخذ بمنهج التنمية الإحتوائية الشاملة. وبالتالي البحث عن نموذج تنموي جديد يقوم على التكنولوجيا ويشجع الإبتكار والإبداع ويوفر المزيد من فرص العمل اللائق والتعليم الجيد الذي يواجه تحديات الإقتصاد الرقمي والذكاء الاصطناعي. وهو ما يتطلب تحديد أولويات المجتمع ودور الدولة والحكومة والمواطن، أى أننا نبحث عن الشكل الأمثل لتدخل الحكومة في النشاط الإقتصادي وتزيد من إمكانيات القطاع الخاص المنتج ليصبح قطاعا ديناميكيا قوىا وقادرا على المنافسة ويعمل وفقا لقواعد وضوابط السوق في ظل إطار مؤسسي شفاف يمنع الإحتكارات ويحمى المنافسة العادلة . وكلها أمور تشير إلى ضرورة التحول إلى عقد اجتماعي جديد يلبى احتياجات المواطنين ويضمن عدالة توزيع الفرص الإقتصادية لاسيما في الصحة والتعليم والإسكان وسوق العمل. وهو ما يعنى السماح للجميع بإطلاق قدراتهم مع ضمان توجيه هذه القدرات نحو أهداف مجتمعية متفق عليها في إطار التنمية الشاملة. مع التأكيد على أن تحقيق العدالة الإجتماعية وتقليل أوجه عدم المساواة هو صلب أى عقد اجتماعي ناجح. خاصة وأن جعل النمو أكثراحتواء لكل شرائح المجتمع يجعله أكثر استدامة، وبعبارة أخرى فإن عدم المساواة وتراجع النمو الإقتصادي وجهان لعملة واحدة فالنمو الضعيف يرسخ الفقر وعدم المساواة نتيجة لانخفاض دخول الأفراد وزيادة البطالة الهيكلية.
وكلها أمور تتطلب من الخطة إعادة ترتيب الأولويات في ظل التحديات العالمية والإقليمية غير المسبوقة وبما يحقق الإستقرار الإقتصادي الكلى ويعزز مناخ الاستثمار وحسن إدارة الدين العام والوصول به إلى مستوى آمن. من هنا يجب العمل على اعطاء أهمية كبرى والتركيز على تعديل الهيكل الحالي وإزالة المعوقات التي تعوق قدرة المؤسسات على الإضطلاع بمهامها. وتسهيل بناء القواعد الإنتاجية وتعبئة الموارد المحلية واستخدامها أفضل استخدام ممكن من خلال التوسع المنظم والفعال في بناء القواعد الإنتاجية وتطبيق سياسات عاجلة لتحفيز الإستثمار الصناعي (الخاص والعام).وبعبارة أخرى وضع استراتيجية تنموية تضمن التنسيق التام والكامل بين القطاعات المختلفة للاقتصاد القومي. وبالتالي فإن الأوضاع الحالية لن تمكن الإقتصاد المصري من مواجهة التحديات المفروضة عليها إلا عن طريق إعادة صياغة السياسة التنموية الحالية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى