مقالات

الهوية المصرية بين الأصالة والمعاصرة

بقلم: ريهام همام العادلي



تُعد الهوية من أهم مقومات وجود أي أمة، فهي الجذور التي تُغذي حاضرها وتشكّل ملامح مستقبلها. والهوية المصرية، بما تحمله من تاريخ عريق، وثقافة غنية، وتنوع حضاري، ليست مجرد ماضٍ يُحكى في الكتب، بل هي جزء حيّ يتغلغل في تفاصيل حياتنا اليومية. إلا أن التحديات الحديثة، من عولمة وثورة تكنولوجية وتأثيرات ثقافية أجنبية، تطرح تساؤلاً ملحًا: هل نستطيع الحفاظ على هويتنا المصرية وسط هذا الطوفان من التغيّرات؟ وهل يمكننا أن نواكب العصر دون أن نفقد أنفسنا؟

الهوية المصرية ليست مجرد شعار أو كلمات تُقال في المناسبات الوطنية. بل هي مجموعة من القيم والعادات والتقاليد واللغة والدين والتاريخ والموروث الشعبي الذي تشكّل على مر العصور. من حضارة الفراعنة إلى تأثيرات العصرين الإسلامي والقبطي، ثم الحقبة الحديثة، تكوّنت الهوية المصرية من مزيج فريد صهرته قرون من التفاعل الحضاري. تظهر هذه الهوية في طريقة كلام المصريين، في ملابسهم، في أكلهم، في موسيقاهم، وفي طريقتهم في التعبير عن الفرح والحزن.

في العقود الأخيرة، بدأت هذه الهوية تتعرض لتحديات كبيرة. أول هذه التحديات هو العولمة، التي جعلت العالم “قرية صغيرة” تنتقل فيها الأفكار والعادات بسرعة. أصبح من السهل أن يتأثر الشباب المصري بالثقافات الأجنبية، سواء من خلال الأفلام والمسلسلات الأجنبية أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لدرجة أن بعضهم بات يقلّد نمط حياة غريب تمامًا عن بيئته، من دون وعي بما يفقده في المقابل.

ثانيًا، تواجه اللغة العربية، كأحد أعمدة الهوية، خطر التهميش. فبينما كانت العربية الفصحى تُعامل باحترام وتُستخدم في المدارس والبرامج الثقافية، أصبحت اليوم تتراجع لصالح اللغة العامية المفرطة أو استخدام كلمات أجنبية حتى في الحديث اليومي، مما يُضعف الصلة بالتراث اللغوي والثقافي.

أما القيم والعادات الاجتماعية، فقد أصبحت أيضًا محل تغيير، حيث بدأت بعض المفاهيم التقليدية تتلاشى أو تُستبدل بمفاهيم مستوردة لا تتماشى دائمًا مع البيئة المصرية، ما يُحدث فجوة بين الأجيال ويؤدي أحيانًا إلى صدامات اجتماعية.

رغم هذه التحديات، فإن هناك العديد من المظاهر التي تُشير إلى استمرار تمسك المصريين بهويتهم. فالحرف اليدوية، مثل صناعة الفخار والنسيج والسجاد والكليم، ما زالت تحظى باهتمام كبير، وهناك محاولات لإحيائها من خلال المعارض والمهرجانات الثقافية. كما بدأت المدارس وبعض المؤسسات التعليمية تدرك أهمية تدريس التاريخ والثقافة المصرية بصورة أكثر تشويقًا للطلبة، وربطهم بالموروث الوطني منذ الصغر.

الفن أيضًا يلعب دورًا كبيرًا، فالأغاني التي تمزج بين الإيقاع العصري والكلمات ذات الطابع المصري تجد رواجًا كبيرًا بين الشباب. وحتى في السينما، هناك عودة قوية لأفلام تحكي قصصًا من واقع المجتمع المصري وتعكس قضاياه وتاريخه.

الدولة المصرية بدأت تُدرك أهمية الحفاظ على الهوية، وظهر ذلك في مبادرات كثيرة مثل “حياة كريمة” التي لا تركز فقط على تحسين البنية التحتية، بل تهدف أيضًا إلى الحفاظ على الثقافة المحلية وتنميتها في القرى. كما أطلقت وزارة الثقافة العديد من المبادرات لإحياء الفنون الشعبية وتعليم الحرف التراثية للشباب.

دور الأسرة لا يقل أهمية، فهي المدرسة الأولى التي يتعلّم فيها الطفل كيف يكون مصريًا. ومن المهم أن نغرس في الأطفال حب اللغة، والفخر بتاريخهم، واحترام العادات والتقاليد دون أن نمنعهم من التعرف على العالم الخارجي. فالمطلوب ليس العزلة، بل التوازن.

السؤال الأهم: هل يمكننا أن نكون عصريين دون أن نفقد هويتنا؟ والإجابة ببساطة هي نعم، إذا تعاملنا مع الهوية باعتبارها مرنة ومتجددة. ليست الهوية سجنًا يمنعنا من التقدم، بل هي جذور تُعطينا القوة للانطلاق. يمكننا استخدام التكنولوجيا الحديثة، وتعلم اللغات الأجنبية، والتفاعل مع ثقافات العالم، ولكن من دون أن ننسى من نحن.

الشعوب القوية هي التي تنفتح على العالم بثقة، وتُضيف إليه من تراثها، لا تلك التي تذوب فيه. ومصر، بتاريخها الممتد آلاف السنين، تمتلك كل ما يجعلها قادرة على أن تظل محتفظة بهويتها مع القدرة على التطور ومواكبة المستقبل.

الحفاظ على الهوية المصرية في هذا العصر المتغير ليس مهمة سهلة، لكنه أيضًا ليس مستحيلاً. يتطلب الأمر وعيًا جماعيًا، وتعاونًا بين الدولة والمجتمع، وتعليمًا يُعزز الانتماء، وفنًا يُجدد التراث، وإعلامًا يُظهر الجوانب المشرقة من هويتنا. وإذا نجحنا في تحقيق هذا التوازن، فسنكون قد وضعنا أساسًا قويًا لمستقبل يحترم ماضيه ولا يخاف من تطوره.

*رئيس رابطة المرأة المصرية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى