
يأتى مشروعا الموازنة العامة للدولة وخطة التنمية عن العام المالى 2025/2026 واللذان قدما إلى البرلمان مؤخرا، فى ظل مرحلة يمر فيها الإقتصاد العالمى بعدد من التحولات الكبرى المهمة على أثر الأحداث والظروف، وأبرزها الحروب التجارية الدولية والحرب الروسية الأوكرانية، وتداعيات آثار فيروس كورونا وهو ما يفرض متطلبات جديدة على السياسات الإقتصادية من أجل مواجهة هذه التحولات. وهنا يبرز دور السياسة المالية فى تعزيز النمو الإحتوائى والمستدام.
وهى مهمة شاقة تتمثل فى تحقيق نتائج أكبر بجودة أفضل فى بيئة زادت فيها القيود نظرا لما يحيط بالآفاق من عدم يقين كبير. وفى نفس الوقت، تزداد أهمية الإدارة المالية العامة السليمة مع ارتفاع مستويات العجز والدين العام ووجود تحديات ديموجرافيه طويلة الأجل وزيادة المخاطر. وكلها أمور تتطلب أن ترتكز السياسات المالية على إطار موثوق للمدى المتوسط يضمن الحد من العجز وبقاء الدين فى حدود يمكن تحملها، وإدارة المخاطر بكفاءة.
فى هذا السياق يأتى البحث عن توسيع الحيز المالى القابل للاستدامة، لتلافى الآثار السلبية للأحداث العالمية، ويسهم فى تحقيق الإستقرار الإقتصادي.
خاصة أن العجز المتوقع فى مشروع الموازنة للعام المالى 2025/2026 يصل إلى 1490.9 مليار جنيه (7.3% من الناتج) وهى نسبة مرتفعة للغاية. كما تقدر نسبة مديونية أجهزة الموازنة (داخلى وخارجي) بـ 85% من الناتج. ولذلك تقدر أعباء خدمة الدين (الفوائد والأقساط) بنحو 65% من إجمالى الاستخدامات.
وعند مناقشة هذه الأمور يجب أن يستند تقييم السياسة المالية على أكثر التعريفات الممكنة للحكومة، حيث يؤدى الإقتصار على الأخذ برصيد الموازنة العامة فقط، إلى تقديم صورة مشوهة وغير حقيقية للوضع المالى للدولة. خاصة أن الأجهزة المالية الأخرى تقوم بتنفيذ عمليات مالية مهمة، كما أن الأنشطة شبه المالية ذات أهمية كبرى فى تحقيق أهدافها القومية تجاه المجتمع فى جميع المناحى والمجالات سواء كانت اجتماعية أو اقتصادية أو أمنية. وبالتالى فالمالية العامة تتضمن بالإضافة إلى أبواب الموازنة، الهيئات العامة الاقتصادية وصناديق التمويل ذات الطابع الإقتصادي. وهو ما أخذ به قانون المالية الموحد رقم 6 لسنة 2022، حيث عرف الإنفاق الحكومى «بأنه كل ما يتم إنفاقه من موازنات الجهات الإدارية التى تتضمنها الموازنة العامة للدولة والهيئات العامة الإقتصادية والشركات المملوكة للدولة بحسب نسبة الملكية».
كل هذه الأمور وغيرها تشير إلى الدور المحورى والأساسى للمالية العامة فى سبيل تحقيق الأهداف التنموية التى نصبو إليها جميعا، وهو ما يتطلب تكثيف الجهود لحل الأزمة الراهنة عبر العديد من المجالات التى يمكن التحرك خلالها لإحداث النقلة المطلوبة فى المالية العامة، وتساعد على إيجاد حيز مالى معقول يساعد فى تنفيذ السياسات المرغوبة عن طريق تعظيم الإيرادات، إذ إنه ورغم وجود إمكانات هائلة وعديدة يمكن بها تعظيم الموارد خاصة بالباب الثالث من الإيرادات وهو المتعلق بالإيرادات الأخري، إلا أن الجهود المبذولة فى هذا الصدد أقل من المطلوب، فعلى الرغم من التحسينات التى دخلت على السياسة المالية إلا إنها لم تؤد إلى زيادات الإيرادات العامة للدولة بل على العكس نلحظ أن الإيرادات العامة للناتج المحلى قد انخفضت من 18.2% ختامى 2023/2024 الى 15.3% فى مشروع موازنة 2025/2026.
وبالتالى يجب العمل على تنمية الموارد المحلية عن طريق العديد من المحاور يأتى على رأسها توسيع الطاقة الضريبية لتشمل جميع قطاعات المجتمع. إذ مازال الجهد الضريبى فى المجتمع منخفضا ولاتصل الضرائب إلى 13% من الناتج. وهو ما يتطلب رفع الوعى الضريبى والعمل على دمج القطاع غير الرسمى فى الإقتصاد القومى وإصلاح النظام الضريبى والإدارة الضريبية مع تكثيف الجهود لتحصيل المتأخرات الحكومية والضريبية والتى وصلت فى ختامى 2023/2024 الى 659.2 مليار جنيه، منها 396.7 مليار متأخرات مصلحة الضرائب و 53.3 مليار للجمارك يضاف إلى ما سبق ضرورة إلغاء جميع الإعفاءات المقررة لبعض الجهات أو لبعض أنواع البدلات، من الضريبة على الرواتب والأجور بحيث يخضع لها الجميع دون استثناء. وعلى الجانب الآخر فإن الضريبة على المهن الحرة، والمفروضة على جميع المهن غير التجارية ورغم اتساع هذه المجموعة إلا انها مازالت لا تشكل قيمة يمكن الاعتداد بها ولا يتناسب بأى حال من الأحوال مع ما تقوم به هذه الفئات من نشاط داخل الإقتصاد القومي، إذ تقدر فى مشروع الموازنة بنحو 21.2 مليار بينما الضرائب على الأجور 222.3 مليار، الأمر الذى يشير إلى ارتفاع التهرب من هذه الضريبة.
ويحتاج إلى بذل المزيد من الجهود لحصر المجتمع الضريبى ووضع القواعد التى تساعد على الحصول على الضرائب المستحقة عليه.
هذا فضلا عن ضرورة إصلاح الاختلالات المالية للهيئات الإقتصادية والوحدات العامة وجعلها مصدرا للإيراد إذ إن صافى العلاقة بين هذه الهيئات والموازنة العامة مازال بالسالب وارتفع من 126 مليار جنيه فى موازنة العام الحالى إلى 170 مليارا فى مشروع موازنة 2025/2026. وضرورة العمل سريعا على إعادة النظر فى توزيع الفائض لديها بحيث يؤول فائض بعض الهيئات بالكامل إلى الخزانة. وكذلك الوحدات الاقتصادية مثل الجهاز المصرفى الذى قدر له فى مشروع الموازنة تحويل نحو 9.9 مليار جنيه لخزانة العامة، رغم الأرباح الهائلة التى يحققها والتى وصلت إلى 130 مليار جنيه فى العام السابق. لذا وجب إصدار تشريع لتعديل القوانين المنظمة ويسمح للخزانة العامة بالإستحواذ على هذه الأموال.
وينطبق نفس الوضع على الصناديق الخاصة إذ يمكن ضمها أيضا إلى الموازنة باستثناء حسابات المشروعات البحثية والمشروعات الممولة من المنح والإتفاقيات الدولية فضلا عن حسابات الإدارات الصحية والمستشفيات وصناديق تحسين الخدمة الصحية ومشروعات الإسكان الإقتصادي.
ومن جهة أخرى العمل على رفع كفاءة الإنفاق العام خاصة فى مجالات الاهتمام الأساسى كالتعليم والصحة وتخليصه من التشوهات التى تحد من فاعليته والإسراع بتنفيذ موازنات البرامج والأداء. وتحقيق متطلبات الشفافية لجميع بنود الموازنة ومصادر التمويل وكذلك تعميق المفاهيم المحاسبية للإدارة المالية السليمة.