
يأتى انعقاد القمة العربية ببغداد فى وقت تتعرض فيه المنطقة للمزيد من المخاطر والتشرذم فى ضوء المخططات المطروحة على الساحة الإقليمية، وخير دليل على ذلك ما يحدث فى العديد من البلدان العربية كاليمن والسودان وليبيا وسوريا وفلسطين، بالإضافة إلى ما آلت إليه الأوضاع العربية وتداعى التعاون العربى من مفهوم اتفاقية الوحدة الإقتصادية والسوق العربية المشتركة فى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، إلى مفهوم استراتيجيات الحد الأدنى للعمل العربى المشترك فى نهاية السبعينيات، والإتفاقات الثنائية فى الوقت الراهن. ومما يزيد من تعقيد الأزمة ما يمر به الإقتصاد العالمى من عدم اليقين الشديد بعد أن أخذت الأزمات تضرب جميع جنبات الإقتصاد العالمي، بدرجات متفاوتة. ومن المفارقات أن هذه الأزمات، منذ جائحة كورونا وحتى الآن، تتعاقب فى فترات زمنية متقاربة. فهناك تصاعد للاضطرابات الجغرافية والسياسية والحروب فى الشرق الأوسط وأوروبا. فضلا عن نتائج السياسة الإقتصادية الأمريكية خاصة على التجارة الدولية والعملات الدولية وتسارع وتيرة استحداث التكنولوجيا الجديدة مع تنامى المخاطر المرتبطة بالمناخ. وهكذا يشهد الإقتصاد العالمى أزمات كبرى وتحولات مهمة وتآكل التعاون متعدد الأطراف وإزاء شراسة هذه التغييرات وفجائيتها ضاعت المقاييس وتراكمت الشكوك، وأصبحت البشرية على مسار جديد مثير للقلق.
ومن أهم التطورات اتجاه التجارة العالمية نحو التعددية القطبية، حيث لم يعد النظام التجارى يدار من قبل أمريكا والصين وحدهما، بل باتت قوى أخرى مثل الاتحاد الأوروبى والهند والبرازيل تلعب دورًا فى صياغة القواعد الجديدة.هذا التحول يعكس عالماً أكثر انقسامًا تجاريًا.وهو ما يتزامن مع إعادة الإعتبار للدولة القومية، بدلا من السوق العالمية، فكل البلدان تقريبا أزالت القيود على عجز الموازنات القُطرية حتى تتمكن كل دولة من إنفاق ما تراه مناسبا، وغيرها من الأمور التى ساعدت على تقوية دور الدولة وتراجع العولمة.
وبالتالى أصبح من غير المحتمل العودة مرة أخرى للحديث عن العولمة المفيدة للأطراف، والتى بنى على أساسها النظام الإقتصادى الحالي وتم تقويض المبادئ الأساسية للتصنيع العالمى من خلال سلاسل القيمة المرتبطة بعدة دول، ووضعت كل دولة مصلحتها الوطنية أولا .
وتقع المنطقة العربية فى قلب العاصفة، وبالتالى لابد من قراءة المشهد جيدا وتحليل ووضع التقديرات والسيناريوهات المختلفة فى ضوء التطورات الجارية على الساحتين العالمية والإقليمية. الأمر الذى يدفعنا للاعتقاد بأن أفضل السبل العربية لمواجهة هذه التحديات يكمن فى إعادة تعزيز العمل العربى المشترك بغية تقليص الإعتماد على الخارج لصالح المزيد من التعاون العربي. خاصة أن المنطقة تملك الإمكانيات المؤهلة لذلك، فعدد السكان يزيد عن 456 مليون نسمة، يمثلون 5.5% من سكان العالم. ورغم ذلك فمازالت التجارة البينية العربية فى حدود 11% من إجمالى التجارة العربية، يحتل النفط حصة ملموسة فيها. مع ملاحظة انها تتركز فى دول الجوار، فعلى سبيل المثال فإن 88% من صادرات البحرين تذهب إلى الإمارات والسعودية والكويت، وبالمثل فإن 62% من صادرات الإمارات تذهب الى السعودية وعمان، و79% من صادرات تونس ذهبت إلى الجزائر والمغرب وليبيا.
فى ضوء انخفاض نسبة الإكتفاءالذاتى من السلع الزراعية، حيث تصل إلى 37% من الحبوب والقمح، وفى السكر إلى 45%، وفى الزيوت إلى 51% وأصبحت أكبر مستود للسلع الغذائية حجما وقيمة على الصعيد العالمي، فهى تستأثر بما يزيد عن ثلث الواردات العالمية من سلع رئيسية كالحبوب. وبالتالى فإن التوترات الحالية ستنعكس بآثارها السلبية على القطاعات الأكثر فقرا بالمنطقة مما يؤدى إلى تفاقم أوجه عدم المساواة الحالية، حيث يصل عدد الفقراء بالمنطقة إلى أكثر من 115 مليون نسمة، أى حوالى ربع سكان المنطقة. كما يسهم فى تقويض سياسات التعافى الحالية ويؤدى إلى ارتفاع مستويات الدين العام، مما ينذر بمخاطر وتحديات عديدة أهمها صعوبة الحفاظ على الإستدامة المالية والإستقرارالمالى أو الاستثمار فى المستقبل.
لكل ما سبق أصبح من الضرورى العمل على زيادة حجم التجارة البينية وتكثيف المعاملات والمبادلات بين هذه الأطراف وبعضها البعض، ولكن تكمن المشكلة فى التركيب السلعى للتجارة العربية والخصائص الهيكلية التى تتميز بها، ونقصد بها تحديدا طبيعة الإنتاج ومدى تطوره وتنوعه، والتماثل والتشابه فى القواعد الإنتاجية. خاصة أن كل المحاولات الهادفة إلى تشجيع التبادل التجارى العربى قد تمت انطلاقا من أزالة المعوقات الإدارية والبيروقراطية، ولم تهتم على الإطلاق بالقضية الأساسية وهى تطوير الهياكل الإنتاجية مع العمل على زيادتها وتنويعها. وهكذا أصبح من الضرورى العمل على تلافى الآثار السلبية للنظام الاقتصادى العالمى الراهن، وهو ما لن يتأتى إلا عبر الإنتقال من دائرة النوايا الحسنة «والأقوال المرسلة» إلى دائرة «الفعل الجاد».
وذلك عن طريق تبنى مفهوم تنموى جديد، ويضع استراتيجية شاملة وعامة للعمل العربى المشترك، بحيث تحدد بوضوح أهدافها وأسسها واتجاهاتها ووسائلها وآلياتها وتوحد حركتها على نحو يحقق التكامل والترابط بين هذه الحركة فى داخل كل قطاع ، وفيما بين جميع هذه القطاعات.
وذلك على المحاور الثلاثة للعمل دوليا وإقليميا وقطريا، بحيث يركز المحور الأول على علاقة البلدان العربية، فرادى أو مجتمعة، بباقى بلدان العالم خاصة فى صورة تجمعات اقتصادية، أما المحور الإقليمى فيركز على علاقات الدول العربية وبعضها البعض، وأخيرا ينصب المحور القُطرى بطبيعة التوجه التنموى داخل كل قُطر عربي.
فإذا ما ترجمنا هذه الأهداف عمليا فإن المنطقة العربية ينبغى أن تعمل على الصعيد الدولى بكل ضراوة وقتال من أجل الحصول على حقوقها التجارية، فى مواجهة طغيان الدول المتقدمة، هذا مع ضرورة البحث عن آليات جديدة، وسبل محددة للتعامل الإيجابى مع التطورات الجارية على الساحة الدولية. وعلى الصعيد الإقليمى فإنه ينبغى تطوير منطقة التجارة الحرة العربية مع التطبيق الكامل لبنود الإتفاقية وإزالة العوائق التى تحول دون انتقال السلع ورءوس الأموال والأشخاص وحل مشكلات قاعدة المنشأ ووضع سياسة تجارية مشتركة لمواجهة حالات الإغراق والوقاية وغيرها وتطوير التعاون الجمركي.