
يوافق اليوم ٩ مارس الاحتفال بيوم الشهيد المصري، وهو يوم له قدسيته واحترامه بين جموع الشعب، وله في سرايا “العادلي” مكانة وتاريخ خاص، فهناك مازالت متعلقات جدي محمد السايح العادلي، أول شهيد طبيب في حرب فلسطين .
حين أتحدث عن جدي الشهيد محمد السايح عدلي، فإنني لا أسرد مجرد قصة عن شخص من الماضي، بل أروي سيرة رجلٍ خلد اسمه في صفحات التاريخ بدمائه الطاهرة وتضحياته العظيمة.
هو جدي الذي نفخر به جميعًا، أول ضابط طبيب استشهد في حرب فلسطين عام 1948، رجلٌ لم يكن مجرد طبيبٍ يعالج الجرحى، بل كان جنديًا في ميدان المعركة، مقاتلًا بروحه قبل سلاحه، ليصبح رمزًا للبطولة والإخلاص ، لقد ورثنا عنه ليس فقط ذكراه العطرة، بل أيضًا القيم التي جسّدها حتى لحظة استشهاده—الشجاعة، التضحية، والوفاء للوطن.
لقد نشأت وأنا أسمع اسمه يتردد بين أفراد العائلة بكل إجلال واحترام، ولم يكن ذلك لمجرد كونه أحد أبطال الجيش المصري، بل لأنه كان مثالًا نادرًا لرجل جمع بين مهنة الرحمة ورسالة الفداء ،أن يكون طبيبًا في ساحات الحرب هو بحد ذاته تحدٍ كبير، حيث تتطلب المهمة مزيجًا من الحرفية الطبية والصبر، لكن أن يكون طبيبًا يقف جنبًا إلى جنب مع جنوده في الخطوط الأمامية، دون خوفٍ أو تردد، فهذا ما يجعل سيرته استثنائية.
وُلِد محمد السايح عدلي في 2 يوليو 1918 بقرية بني هلال، مركز المراغة، محافظة سوهاج، مصر ، نشأ في أسرة عُرِفت بالالتزام والتفاني في خدمة الوطن؛ حيث كان والده ضابطًا في الشرطة.، تأثر محمد بوالده، مما غرس فيه قيم الانضباط وحب الوطن منذ الصغر، ونشأ على قيم الشرف وحب الوطن، وهي المبادئ التي شكلت شخصيته منذ صغره ،تفوق في دراسته حتى التحق بكلية الطب، حيث أظهر تفانيًا وإصرارًا يعكسان إيمانه برسالته ، لكنه لم يكتفِ بممارسة الطب في أروقة المستشفيات أو داخل العيادات، بل آمن بأن هناك واجبًا أكبر تجاه بلاده، فاختار الانضمام إلى القوات المسلحة ليكون طبيبًا عسكريًا، يجمع بين العلاج والقتال، وبين إنقاذ الأرواح وحماية الأرض.
حين اندلعت حرب فلسطين عام 1948، كان محمد السايح عدلي من أوائل الذين لبوا نداء الواجب، لم يكن مجرد جنديٍ عادي، بل كان يحمل سلاحًا بيد، وحقيبة إسعافات بيدٍ أخرى، يجسد التقاء الإنسانية بالحرب، والتضحية بالحياة ، لم يكن التراجع خيارًا أمامه، ولم يكن الخوف يعرف طريقًا إلى قلبه.
يُروى عنه أنه كان يتحرك بين الصفوف، يسعف الجرحى تحت نيران العدو دون اكتراث للخطر المحدق به، كان يدرك أن كل ثانية تعني حياة جنديٍ آخر، وكل خطوة يخطوها نحو المصابين قد تكون الأخيرة، لكنه لم يتردد ،في إحدى أعنف المعارك، وبينما كان يؤدي واجبه في إسعاف المصابين
، نُقل إلى المستشفى ضابط مصاب بجروح خطيرة نتيجة هجمات العصابات الصهيونية ، ورغم الأوامر العسكرية بإخلاء الموقع بسبب خطورة الوضع، أصر الشهيد البطل على البقاء لإجراء الجراحة اللازمة للضابط المصاب ، و أثناء قيامه بواجبه الإنساني، سقطت قذيفة هاون أصابت رأسه، ليسقط شهيدًا في ساحة الشرف و علي وجهه ابتسامة عريضة بدون نقطة دم واحدة ، عن عمر يناهز الواحد و الثلاثين عامًا تاركاً ابنه الوحيد محمود عمره سنة واحدة، بعد أن أنقذ حياة الضابط المصاب ، رفض والده الاميرلاي / محمد بك العادلي العزاء فيه و احتسبه عند الله شهيداً في سبيل الله و الوطن بعد ما نقل له الخبر من احد الضباط زملاء الشهيد ليحكي لوالده بطولاته في ميدان المعركة و انه استشهد بطلا” و تم دفن جسده الندي في فلسطين فنزلت من عينيه دمعة و قلبه يعتصر الما” ، و ايماناً منه بان ابنه استشهد في سبيل الله و الوطن فقام بالتبرع بحصانه العربي الأصيل الي الكلية الحربية عام ١٩٤٩ ، و تكريمًا لتضحيته وبطولاته، أُطلِق اسمه على محطة السكة الحديد في مركز المراغة بمحافظة سوهاج، وكذلك على مدرسة الشهيد السايح بالمراغة. كما سُمِّيت الدفعة الأولى المتخرجة من أكاديمية الطب العسكري باسم “دفعة الرائد طبيب شهيد محمد السايح عدلي”، وأُطلِق اسمه أيضًا على مستشفى الكلية الحربية المصرية ، كما أطلق اسمه علي قاعة من قاعات المتحف الحربي و كرمت نقابة الأطباء اسمه بإطلاق اسمه علي قاعة من قاعات دار الحكمة ( نقابة الأطباء ) .
استشهاده لم يكن مجرد فقدان فردٍ من الجيش المصري، بل كان إعلانًا عن ولادة أسطورةٍ تروى حتى اليوم ، لقد كان نموذجًا لضابطٍ لم يفصل بين مهنته كطبيبٍ ودوره كمقاتل، فآمن بأن الوطن يستحق التضحية بكل شيء، حتى بالحياة ذاتها ، ورغم مرور السنوات، لا يزال اسمه حاضرًا في ذاكرة الوطن، محفورًا في سجل الأبطال، وشاهدًا على مرحلةٍ من النضال لم يكن فيها مكانٌ إلا لمن وهبوا أرواحهم لقضيةٍ عادلة.
حين أتحدث عن جدي، فإنني لا أروي مجرد قصة بطولية من الماضي، بل أستعيد ذكرى رجلٍ منحني إرثًا أفتخر به، وأحمل اسمه بفخرٍ واعتزاز ، لقد كان استشهاده لحظةً مؤلمة، لكنها كانت أيضًا لحظة ميلادٍ لمعنى أعمق للبطولة ، فحين تسقط الأجساد، تبقى القيم التي حملها أصحابها، وحين يرحل الأبطال، تبقى أسماؤهم تضيء دروب الأجيال القادمة.
اليوم، وبعد مرور عقودٍ على استشهاده، أجد نفسي مسؤولة عن نقل سيرته، لا كحكايةٍ تُروى، بل كرسالةٍ تتجدد، فالأوطان لا تُبنى إلا بتضحيات من آمنوا بها حتى الرمق الأخير.
جدي الشهيد محمد السايح عدلي لم يكن مجرد اسمٍ في قائمة الشهداء، بل كان روحًا أبت أن تعيش إلا بشرف، وألا ترحل إلا بكرامة .