مقالات

رفعت السعيد: إنسان استثنائيٌ ومناضلٌ راقٍ وعطاءٌ بلا حدود

بقلم: إلهامي المليجي

رفعت السعيد، اسم لا يغيب عن الذاكرة، ليس فقط كأحد أبرز وجوه الفكر اليساري المصري، بل كقائد إنساني كان يُدرك عمق التفاصيل في حياة من حوله. في سيرته مع من عرفوه، تتجلى قصص الدعم والإلهام، وحتى الخلافات، بروح نادرة تجعل منه شخصية استثنائية تركت بصمتها في عقول وقلوب من رافقوه في رحلتهم الفكرية والسياسية.

المشهد الأول: البداية بتواضع المعلم

في العام 1976، بدأت رحلتي مع الدكتور رفعت السعيد. كنت شابًا طموحًا، نشطًا في منظمة الشباب الاشتراكي، وأسعى لإحداث تغيير في قريتي البجلات بمحافظة الدقهلية. كنت أبحث عن قدوة تلهمني في مسيرتي، ووجدتها في الدكتور رفعت. عندما طلبت إجراء حوار معه لمجلة حائطية في مركز شباب قريتي، لم أتوقع أن يوافق. لكنه فاجأني بتواضعه وقبوله. هذا الحوار البسيط كان نقطة تحول، ليس فقط لشاب مبتدئ مثلي، بل لجيل كامل من شباب القرية. تعلمت منه أن القائد الحقيقي يستمع للجميع، ويمنح الفرصة لمن يبحث عن التغيير.

المشهد الثاني: الغضب الذي تحول إلى فرصة

في أواخر 1976، حضرت المؤتمر الأول لحزب التجمع بالدقهلية، مليئًا بالأمل في أن أكون ضمن القيادة. لكن خيبة الأمل كانت كبيرة عندما تم تجاهل ترشيحي، رغم نشاطي الملحوظ. شعرت بالغضب والإحباط، وكنت على وشك الانسحاب من الحزب. لكن الدكتور رفعت، بحكمته وصبره، استمع لاحتجاجي وأخذني لمقابلة الزعيم خالد محيي الدين. كانت تلك الجلسة نقطة تحول، حيث قرر خالد ضمي لقيادة المحافظة. أدركت حينها أن الدكتور رفعت لم يكن فقط مفكرًا، بل صانع فرص وقائدًا يرى في الآخرين إمكانيات قد تغيب عنهم.

المشهد الثالث: الرحلة إلى العراق

بعد أحداث انتفاضة يناير 1977، شعرت بالإحباط مع اعتقال قيادات اليسار. كان الدكتور رفعت حاضرًا بفكره وحنكته، حيث اقترح علي السفر إلى العراق للعمل في بيئة تتيح لي التفاعل مع كوادر فكرية وسياسية متنوعة. كانت التجربة غنية بالتعلم، لكنها لم تكن خالية من التحديات. خلال تلك الفترة، ظل الدكتور رفعت يتواصل معي، ينصحني ويدعمني، مما جعل حضوره في حياتي جزءًا لا يتجزأ من رحلتي نحو النضج السياسي.

المشهد الرابع: بيروت والمواجهة الفكرية

مع تفاقم الوضع في العراق، قررت الانتقال إلى بيروت، حيث كانت المقاومة الفلسطينية محور الأحداث. دعم الدكتور رفعت قراري بتوصياته وتوجيهاته، مما ساعدني في الاندماج في بيئة ثقافية وسياسية ثرية. في بيروت، التقيت بشخصيات بارزة مثل مهدي عامل وحسين مروه. أدركت خلال هذه الفترة عمق تأثير الدكتور رفعت كمعلم وأستاذ. لم يكن يقدم الدعم فقط، بل كان يفتح أمامي أبوابًا للنقاش والتعلم.

المشهد الخامس: الاختبار الأول والخلاف الوحيد

عندما انتقلت إلى دمشق، زارني الدكتور رفعت مرة واحدة خلال خمس سنوات، وأبدى تفهمه لقراري بترك الحزب. كانت زيارته رغم قصرها مؤثرة، حيث قدمني للمثقفين والسياسيين السوريين بطريقة عززت من مكانتي.
بعد عودتي إلى مصر، دعم خطواتي المهنية، بدءًا من “الأهالي” وصولاً إلى “الوفد”، وشجعني على تأسيس دار “النديم” للنشر.
لكن أول خلاف بيننا كان عند نشري كتابًا عن هنري كورييل، حيث انتقد الدكتور رفعت الكتاب بشدة لافتقاره للموضوعية. دعوته لكتابة مقدمة نقدية، لكنه رفض زيارة جناح النشر في معرض الكتاب قائلاً: “لن أزور دارًا تنشر كتابًا مليئًا بالمغالطات”.
قرأت الكتاب مرة أخرى، وأدركت أن انتقاداته كانت محقة. امتلكت الشجاعة للاعتذار له، وقبل اعتذاري بروح كريمة. هذا الموقف علّمني قيمة الاعتراف بالخطأ.

المشهد السادس: حزب مصر الفتاة والدعم المستمر

عندما انضممت لحزب مصر الفتاة نزولاً على رغبة عمي محمود المليجي، كان الدكتور رفعت داعمًا لي. توليت مناصب قيادية داخل الحزب، لكن الانشقاقات الداخلية أثرت على مساره. حاول الدكتور رفعت التوسط مع كمال الشاذلي لحل الأزمة، لكن الظروف لم تكن مهيأة للنجاح. رغم ذلك، بقي على تواصل معي، وكان يدعمني في كل خطوة.

المشهد السابع: الوداع الأخير

رغم الخلاف الذي شاب علاقتنا لفترة قصيرة، إلا أن الدكتور رفعت ظل حاضرًا في حياتي حتى بعد ابتعادي عن بعض المسارات السياسية. كان دائمًا يحمل في داخله روحًا تعكس قيمته كإنسان قبل أن يكون مفكرًا. في إحدى المرات، عندما كنت أمر بمرحلة من التردد تجاه مشروعاتي الفكرية والمهنية، تواصل معي ليقدم لي دعمه المعتاد. كلماته كانت بسيطة لكنها تحمل ثقل الخبرة: “لا تتوقف عن السعي، الفكرة تحتاج لمن يحميها وينميها، وأنت قادر على ذلك”.

رحيله كان بمثابة فقدان دعامة أساسية في حياتي. ذكراه لا تزال تسكن داخلي، تلهمني في كل قرار وكل خطوة. رفعت السعيد لم يكن مجرد مفكر أو سياسي، بل مدرسة لا تنتهي، وإرثه سيظل حيًا في نفوس من عرفوه وتأثروا به.

مدرسة لا تنتهي

ظل رفعت السعيد حاضرًا في حياتي، ليس فقط بذكرياته، بل بروحه التي تسكن كل لحظة تعلمت فيها منه. كان مدرسة فكرية وإنسانية، ومصدر إلهام لا ينضب، ترك أثرًا يتجاوز الزمان والمكان. إرثه الفكري والإنساني سيبقى شاهدًا على عطاء قائد استثنائي ومناضل راقٍ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى