
«إن تهديدات الرئيس الأمريكى المنتخب دونالد ترامب بفرض رسوم جمركية تزيد من الرياح المعاكسة للاقتصاد العالمي»، ..هذا ما أشارت إليه كريستالينا جورجييفا المديرة التنفيذية لصندوق النقد الدولى مؤخرا. وذلك بعد أن تعهد ترامب بفرض رسوم جديدة على الواردات من الصين وكذلك بعض الحلفاء مثل كندا والمكسيك والإتحاد الأوروبى. وفى هذا السياق أيضا صرح ترامب بأنه لن يقف مكتوفى الأيدى لإنشاء أى عملة جديدة لتحل محل الدولار وإلا انها ستواجه بتعريفات جمركية بنسبة 100% قائلا «عندما تخسر دولة مثل الولايات المتحدة، مليارات الدولارات فى التجارة مع كل الدول التى تتعامل معها، فإن الحروب التجارية جيدة ومن السهل كسبها». مما أثار غضب الشركاء التجاريين. ويرى أن الضرر الذى لحق بالعمالة الأمريكية نتج عن التجارة مع الصين خلال الأعوام السابقة. فقد كانت الصدمة الصينية أشد بكثير مقارنة مع غيرها من قنوات المنافسة التجارية.
فالإقتصاد الصينى كبير الحجم ويتمتع بميزة التكاليف المنخفضة جدا، بحيث أفقد الكثير من العمال وظائفهم. وهو ما أدى إلى تفاقم البطالة. وكما هو معروف فإن تنامى البطالة، يزيد من النزعات الحمائية من الواردات الصناعية المنافسة، ويؤدى إلى سياسة جمركية تهدف إلى حماية الصناعات الأكثر تضررا. لهذا سوف يستهدف ترامب الدول التى تحقق فائضا تجاريا مع أمريكا وعلى رأسها أوروبا، حيث يصل العجز التجارى الأمريكى إلى 240 مليار دولار عام 2024. ومن المفارقات أن الواردات الأمريكية من الصين قد بلغت الذروة عقب كوفيد بعد الزيادة الحادة فى المنتجات التى لا تخضع للتعريفة الجمركية وسجلت نحو 564 مليار دولار فى عام 2022 مع استمرار التوسع فى الخدمات ولاتزال السوق الأمريكية هى الوجهة الرئيسية للصادرات الصينية من البضائع تليها اليابان وكوريا وفيتنام والهند.
ورغم أن تعطل التجارة العالمية قد بدأ منذ فترة ليست بقصيرة فإنه اشتد فى أثناء كورونا وعقب الغزو الروسى لأوكرانيا، وشهدنا خلال السنوات الأخيرة المزيد من القيود على التجارة الدولية فى قطاعات مثل السلع الأولية وأشباه الموصلات، التى تُعد بالغة الأهمية للمنافسة الاستراتيجية. واتسع نطاق الحروب التجارية، حيث فرض العديد من الدول النامية مثل البرازيل وشيلى وجنوب إفريقيا وتركيا وإندونيسيا رسوما جمركية على الصادرات الصينية. وبات واضحا أن الحروب التجارية باستخدام الرسوم الجمركية قد انطلقت. وهو ما يختلف تماما عن النظام الذى كان قائما خلال الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضى القائم على الأسبقية على تحقيق التكامل الإقتصادى العالمى وما يحققه من استفادة مشتركة فى إطار العولمة. وما يهمنا هنا أن هذه الأحداث، قد كتبت النهاية لحقبة ما بعد الحرب الباردة وتعد بمثابة الإعلان عن انهيار النظام الحالى، والقائم على أساس «توافق واشنطن» بآلياته ومؤسساته، وبدء البحث عن نظام جديد أكثر إنسانية وأقل وحشية. وهكذا إعادة الإعتبار للدولة القومية والتحالفات الإقليمية، بدلا من السوق العالمية، وأصبح من غير المحتمل العودة مرة أخرى للحديث عن العولمة المفيدة للأطراف، والتى بنى على أساسها النظام الإقتصادى الحالى. وتم تقويض المبادئ الأساسية للتصنيع العالمى من خلال سلاسل القيمة المرتبطة بعدة دول، ووضعت كل دولة مصلحتها الوطنية أولا، كما ازدادت درجة عدم اليقين، فالتغييرات الجارية والمتلاحقة على الساحة العالمية، لم تعد تدور، كما كانت من قبل، وفقا لقواعد وأسس محسوبة أو يمكن توقعها. بل على العكس من ذلك تماما، إذ زادت بشدة كمية الأحداث الفجائية والتى تخرج عن أى توقعات ممكنة. وقد شهدنا، فرض مجموعة من الحواجز التجارية فى السنوات الأخيرة.
وأثناء جائحة كورونا، اختار عدد كبير من البلدان فرض قيود على صادرات السلع الطبية والمواد الغذائية. وبينما اتخذت الحواجز التجارية مسارا تراجعيا بصفة عامة. وتحولت إلى رد فعل عنيف ضد فكرة التجارة الحرة ذاتها.
هنا يشير صندوق النقد الدولى فى تقريره عن توقعات الإقتصاد الدولى إلى أن إحدى المشكلات الأساسية التى تواجه النمو العالمى هى السياسات الإنغلاقية، إذ نشهد حاليا إعادة تفاوض بشأن اتفاقيات تجارية مهمة طُبِّقَت لفترة طويلة، مثل اتفاقية أمريكا الشمالية للتجارة الحرة «نافتا» والإتفاقيات الإقتصادية بين المملكة المتحدة وبقية بلدان الاتحاد الأوروبي.
وإذا زادت الحواجز التجارية أو غيرها، فسوف تؤثر سلبا على الاستثمار العالمى وتحد من كفاءة الإنتاج، مما يشكل عبئا معوقا للنمو الإقتصادى.
ولذلك فإن السياسة الراهنة مع ما أثارته من ردود أفعال انتقامية من جانب البلدان الأخرى الشريكة فى التجارة، ستؤدى إلى إصابة الإقتصاد العالمى بالوهن والضعف، والأهم من ذلك إنهيار أحد اضلاع المثلث للنظام الإقتصادى القائم والخاص بضمان تدفق التجارة الدولية دون اللجوء إلى ممارسات تمييزية فى التجارة بتعزيز دور منظمة التجارة العالمية. والتى هدفت إلى فتح الأسواق، عبر خفض التعريفات الجمركية، بحيث يصبح البشر فى شتى أنحاء العالم جزءا من سوق إستهلاكية عالمية موحدة. ويرى معظم البلدان أن السياسة التجارية الأمريكية قد خرجت من الإلتزام بسياسة متعددة الأطراف، إلى الإتجاه الفردى، وذلك من خلال إستخدام أنشط لقانونها التجارى الذى تقرر بموجبه وحدها، ما إذا كانت الممارسات التجارية للبلدان الأخرى غير منصفة أم لا، وتتخذ التدابير الإنتقامية لتكفل الإمتثال للقواعد ويتيح فرض عقوبات تجارية انتقامية، على الدول التى تضع حواجز على تجارتها الأجنبية، أو تمنع الوصول العادل والمتكافئ إلى الأسواق عن أشخاص أو مؤسسات أمريكية، وهكذا تخلت الولايات المتحدة عن دورها كضامن للنظام التجارى، متعدد الأطراف إلى غير رجعة، إذ لا ينتظر أن تعود إليه مهما كانت النتائج . وأصبح العالم على شفا مرحلة جديدة تقوم على أسس مختلفة تماما عن المعمول بها حاليا.
ففى غياب الولايات المتحدة سوف تترك للصين مهمة وضع معايير التجارة العالمية. وهذا يعنى مزيدا من التفرد الصينى على حساب واشنطن، كما يعنى إعادة صياغة قوانين التجارة لصالح بكين.
ولذلك فإن التحكم بحركة التجارة العالمية أصبح هو الشغل الشاغل لجميع الأطراف. وذلك فى ظل التحولات العميقة فى بنية التجارة العالمية والتى تتخلل المناقشات الدائرة حاليا حول السياسة التجارية والحاجة إلى نظام تجارى عالمى جديد.